"فَإِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ وَالآكَامَ تَتَزَعْزَعُ أَمَّا إِحْسَانِي فَلاَ يَزُولُ عَنْكِ وَعَهْدُ سَلاَمِي لاَ يَتَزَعْزَعُ قَالَ رَاحِمُكِ الرَّبُّ" (إِشَعْيَاءَ 54: 10) . . . . "ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِماً سَالِماً لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ" (إِشَعْيَاءَ 26: 3) . . . . "أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ" (المَزَامير 32: 8)
الخطية الجدية
الخطايا الشخصية (أعمال التعدي) لا ترثها الذرية. "النَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ. الاِبْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ وَالأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الاِبْنِ. بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ"(حزقيال 18: 20؛ تثنية 24: 16). إلهنا عادل. لذلك هو لا يدين شخصا لخطايا ارتكبها أجداده منذ عشرات الآلاف من السنين في الماضي البعيد، إذ أنه لم يشترك في هذه الخطايا.
لقد خلق الله الانسان في حالة من البراءة والقداسة قادرا على الخلود، وكان مقدرا له أن ينمو إلى مرتبة رفيعة من القداسة والمجد. جربه الشيطان، وأوعز له أن في مقدرته أن يصير مثل الله بإمكانياته الشخصية بدون معونة من الله. لم يثق آدم في خالقه. فأساء استخدام حريته وعصى أمر الله. أدى ذلك إلى سقوط آدم وحواء. خسرا فورا نعمة قداستهما الأصلية، وسقطا من حالة البراءة الأصلية. أدركا أنهما عريانان، وخافا الله. أصبحا تحت حكم الموت الجسدي. فقدا الانسجام مع المخلوقات الأرضية التي أصبحت غريبة ومعادية لهما.
تخبرنا الكنيسة الأرثوذكسية أن الخطيئة الجدية هي"الحالة الخاطئة لطبيعتنا البشرية التي وُلدنا بها. "هَئَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِايَّا حَبِلَتْ بِي أُمِّي" (مزمور 51: 5). تُسمى الخطيئة الجدية "خطيئة" فقط مجازيا. هي حالة موروثة وليست خطيئة تعدي. إنها ليست عصيان، ولكنها حالة خاطئة تضعف مقدرة الإنسان على الإستجابة إلى نعمة التقديس الإلهية التي تحث الإنسان باستمرار أن يتجه إلى الله. لأن الإنسان لا يختار بإرادته الحرة حالة الخطيئة الجدية، يتم غفرانها بالمعمودية، بدون الحاجة للتوبة، لهذا من الهام تعميد الأطفال (أعمال الرسل 2: 38-41؛ 10: 48؛ 16: 15، 33؛ 18: 8؛ كورنثوس الأولى 10: 2؛ الخ). تزرع المعمودية بذور التجديد في النفس البشرية، التي تتطلب التنمية والنمو من أجل إنتاج الثمار الروحية بحسب التربة التي زُرعت بها، والتنمية الأخلاقية والروحية اللاحقة للشخص.
على الرغم من نسل آدم بحسب الطبيعة لم يشاركوا في عصيانه الأول ولن يدينهم الله لذلك، فقد ورثوا فساد طبيعته، وفنائها الذي نتج من سقوطه في الخطيئة الأولى (رومية 5: 12، كورنثوس الأولى 15: 21). حالة عدم النقاوة ليست خطيئة شخصية. باستثناء السيد المسيح، يولد جميع البشر بالطبيعة الساقطة—طبيعة بشرية مجروحة بتعدي آدم الأول؛ طبيعة بشرية تحت سلطان الخطية والموت؛ طبيعة بشرية مجردة من قداستها الأصلية؛ طبيعة بشرية فقدت نعمة الله. أدى هذا إلى أن نسل آدم قد انحاز نحو ارتكاب الخطايا والشرور. أما السيد المسيح فقد وُلد بدون الخطية الجدية لأنه مولود بالروح القدس للإله الحي، ليس برجل. منع الروح القدس فساد طبيعته البشرية (لوقا 1: 35؛ العبرانيين 4: 15).
وراثة الطبيعة البشرية الفاسدة التي نتجت من خطيئة آدم الأولى تشبه حالة طفل وُلد بمرض تناسلي أصيب بعدواه من أمّه في رحمها. رغم أنّ الطفل الرضيع بريء، هو يقاسي من نتائج السلوك الجنسي الخاطئ المستهتر لأمه. لا يُعاقب الإنسان لعصيان آدم. بالأحرى، يرث الإنسان الموت من بذرة آدم الفاسدة: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رومية 5: 12). حرم مرض الخطية الأنسان من النعمة الإلهية.
تدعم الدراسات العلمية الحديثة في مجال شخصية الإنسان تعليم الكتاب المقدس بأن الإنسان يتميز بطبيعة ذاتية فردية أنانية بعد سقوطه، وأن هذه السمة منتشرة بالوراثة في الجنس البشري. في هذا الشأن، يشير الكتاب المقدس إلى زمن لم توجد فيه هذه السمة في الجنس البشري.
أدت الخطيئة الأولى إلى الحالة الخاطئة لطبيعتنا البشرية التي وُلدنا بها. يتجلى هذا في شهوات وميول ونزعات شريرة تشمل التحرق، والحسد، والجشع، والكبرياء، والأنانية، وخيانة الأمانة، إلخ. أقام هذا حاجزا بين الإنسانية والله الكلي القداسة: "بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ" (أشعياء 59: 2). فقد الإنسان اشتياقه لله. لكن سقوط آدم لم يؤدي إلى فساده الكلي، ولم يدمر صورة الله في الإنسان، بل أضعفها فقط. كما لم يدمر السقوط حرية إرادة الإنسان. لكن قيدها لفساد نسيج الطبيعة البشرية. لم يُحول سقوط آدم جوهر الإنسان إلى الشر.
تعود عقيدة الخطيئة الجدية إلى آباء الكنيسة الأولين (القديس كبريانوس (ت. 258)؛ القديس أثناسيوس الرسولي (ت. 373)؛ القديس كيرلس الكبير (ت. 444)؛ الخ). طور القديس أوغسطينوس، أسقف هيبو بشمال أفريقيا (351-430)، عقيدة الخطيئة الجدية ردا على بدعة بيلاجيوس، وافترض أنها تنتقل بواسطة العلاقة الجنسية. أثبت العلم الحديث خطأ هذا الفرض، لأن أطفال التلقيح الصناعي الذين لم يتكونوا نتيجة علاقة جنسية لا يختلفوا بأي شكل من الأشكال من أشخاص نتجوا من تناسل جنسي. في تطوير هذا المفهوم، لعل أوغسطينوس قد تأثر بمبادئ المانيخية الفارسية. لم تخطئ البشرية في شخص آدم كما اعتقد القديس أوغسطينوس استنادا إلى تفسير خاطئ لرومية 5: 12؛ كورنثوس الثانية 5: 15. لا نعلم كيفية انتقال الخطيئة الجدية.
لا يولد الطفل البريء عاصيا مرتكبا خطايا شخصية، ولن يدينه الرب لخطيئة آدم الأولى. إن الطفل غير قادر على الإيمان، غير قادر على معرفة الخير والشر، وغير قادر على الخطايا الشخصية (التعديات)، وغير قادر على التوبة. كل من يدعي أن الأطفال النائمين بسلام في مهدهم هم خطاة، عليه تحديد، على أساس الملاحظة، أعمالهم اليومية من الخطايا الشخصية التي يرتكبونها. كما أن عليه أيضا حل مشكلة عدم مقدرة الطفل على التوبة.
أودع أوغسطينوس الطفل الرضيع الغير مُعمد في الجحيم الأبدي. أودعه القديس توما الاكويني (1225-1274) في الظلمة الخارجية. أما السيد المسيح، ربنا المحب الرحوم، فيرسله إلى الجنة (متى 18: 2-4؛ 19: 14؛ مرقس 10: 14؛ لوقا 18: 16). هذا هو عمل العناية الإلهية. نلاحظ أن يسوع لم يقل لأي طفل: "مغفورة لك خطاياك (تعدياتك)." في الواقع، لقد أشاد ببعض صفات روحية يمتلكها الطفل، وأشار إلى أنها مطلوبة لدخول ملكوت السماوات (متى 18: 3-4؛ مرقس 10: 15؛ لوقا 18: 17).
ارتكبت حواء الأولى أول خطيئة في تاريخ البشرية، وحثت زوجها آدم أن يفعل مثلها (تكوين 3: 6). لا يعني هذا خفض مستواها إلى درجة أقل من الرجل. وذلك لأن حواء الثانية، القديسة مريم العذراء والدة يسوع، أنجبت مخلص العالم بطاعتها لمشيئة الله لها. وبذلك عكست الآثار السلبية لسقوط حواء الأولى. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الكتاب المقدس آدم، وليس حواء، المسؤول الرئيسي عن الخطيئة الأولى التي أدت إلى سقوط الجنس البشري (تكوين 3: 17-19؛ رومية 5: 12-21؛ كورنثوس الأولى 15: 21-23) . ذلك لأنه قد فشل في حماية حواء، زوجته، من السقوط.
ليس في مقدرة الإنسان أن يحرر نفسه من ميوله الدفينة نحو الشرور. يحتاج الإنسان إلى معونة إلهية تمكنه من طاعة الله. ينعم الرب بالشفاء على إرادة الإنسان المجروحة ويقويها بروحه القدوس ويهبها المقدرة على محبته وطاعته. أدى السقوط إلى تدهور العلاقة بين الانسان والله. الخلاص هو الحركة نحو استعادة وتقوية هذه العلاقة. أعطانا انتصار السيد المسيح على الخطيئة بركات ونعم أعظم مما فقدناه بالسقوط. "وَلَكِنْ لَيْسَ كَالْخَطِيَّةِ هَكَذَا أَيْضاً الْهِبَةُ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً نِعْمَةُ اللهِ وَالْعَطِيَّةُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي بِالإِنْسَانِ الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ قَدِ ازْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ" (رومية 5: 15). كتب القديس توما الاكويني، قائلا أنه "ليس هناك شيء يمنع الطبيعة البشرية من السمو إلى مستوى أرفع، حتى بعد الخطيئة. يحول الله الشر الذي يسمح به إلى خير أعظم." لذلك، قال القديس بولس الرسول: "... حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدّاً" (رومية 5: 20).