"لأَنَّ يَوْماً وَاحِداً فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى العَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلَهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ" (مزمور 84: 10) . . . . "وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ" (مزمور 27 : 4) . . . . "... مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ" (كورنثوس الأولى 2: 9)
تأبين لأم صالحة
لا أدري من أين وكيف أبدأ هذا التأبين. لذكرى أمي رائحة عطرة لا يمكن للمرء أن ينساها أبدا.
لقد قضت رحلة العمرفي عمل شاق لم يعرف الراحة. لقد ضحت بزهرة حياتها لأسرتها. أذكر أنها كانت أول من يستيقظ في المنزل في الصباح الباكر، وآخر من يذهب إلى النوم في الليل منهوكة من عمل اليوم الشاق. لقد خدمت عائلتها، ولم تفكر في نفسها أبدا. دائما بدأت يومها الجديد بابتسامة على وجهها شاكرة الرب لهديته الجديدة.
أثمن هدية أعطتها لي هي هدية معرفة المسيح. أخذتني إليه عندما كنت طفلا صغيرا. لن أنسى لها أبدا هذا الجميل.
عندما تقدمت في العمر، عانت من ضعف الذاكرة في السنوات الإحدى عشر الأخيرة من حياتها. ولقد كانت السنوات الخمس الأخيرة لحياتها من أصعب السنوات، حيث أصبحت تعتمد بشكل كامل على عناية الأخرين بها. وعانت من نوبات من فرط النشاط، والأرق، والالتهابات المتكررة. إنه من المروع أن يتدهور العقل البشري قبل الجسد. في كثير من المرات حاولت التعبير عن فكرها في هذه السنوات الصعبة لكنا لم تستطع لأنها نسيت الكلمات. لقد أعلن بولس الرسول في رومية 8: 17 أنه "... إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ (المسيح) لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ." تأتي آلام الصليب قبل مجد القيامة.
من الصعب أن أبدأ الحديث عن الفضائل الكثيرة التي زينتها-الفضائل التي تسطع في السماء، ولكن قد تذهب بدون انتباه وتقدير على الأرض. تسطع أحد هذه الفضائل بجلاء وهي فضيلة إنكار الذات. لقد حاولت أن أتعلم منها هذه الفضيلة على مر السنين. لقد سكبت نفسها دائما بدون تحفظ في خدمة الآخرين، بدون أن تتوقع أي شيء في المقابل. ما طلبت أي شيء لنفسها. تتجلى في هذه الفضيلة أحد الصفات الجميلة للسيد المسيح. فقد ترك السيد المسيح أمجاده السماوية الأبدية ليأخذ جسد بشري متواضع من طين الأرض بدافع محبته لله الآب، وللبشرية الساقطة. لقد شرح هذا بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبي 2: 7 قائلا: "لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ." انه لم يسعى وراء أي شيء دنيوي لنفسه يستمتع به. حتى عندما أرادوا أن يجعلوه ملكا رفض مُظهرا إنكار ذات كلي والتضحية بالنفس (يوحنا 6: 15).
اختبار الألم هو الاختبار النهائي الحاسم للإيمان. ينبغي علينا جميعا أن نجتاز هذا الاختبار، كما علمنا السيد المسيح قائلا: "مَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً" (لوقا 14: 27). اختبار الألم يتسم بالوحدة. لا يحصل التلميذ على مساعدة عند أداء اختباره. في هذه التجربة القاسية التي استمرت أكثر من خمس سنوات، تذكرت الألم والوحدة التي شعر بهما إبراهيم عند تقديمه ابنه اسحق، ابن الموعد، ضحية كما أمره الرب. وتذكرت آلام يوسف الصديق التي عانى منها لمدة 13 عاما في العبودية والسجن في أرض أجنبية بعيدا عن أسرته وأصدقائه، وكان بريئا من أي خطأ. وتذكرت عذاب الوحدة الذي عاناه يسوع على الصليب عندما صرخ قائلا: "... إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" (متى 27: 46).
حِرْتُ كثيرا بين شتى الفكر بخصوص آلام الأبرار التي حيرت علماء اللاهوت الموهوبين لقرون من الزمان منذ زمن أيوب البار منذ أكثر من أربعة آلاف سنة. ربي، لماذا الآلام الطويلة المضنية؟ لماذا الموت البطيء الصعب بعد حياة صعبة من الكد؟ لماذا توقف جزء هام من حياتي لمدة سنين؟ لا أفهم تماما معاناة الأبرار. لا يفهمها أحد. ربما، سوف يجيب الرب على هذه الأسئلة بشكل كامل عندما ألتقي معه في الأبدية. الجواب الفوري للإيمان هو "ثق بربك" (أيوب 13: 15؛ مزمور 37: 3، 5؛ 40: 3؛ 62: 8؛ إشعياء 26: 4؛ الخ).
في خضم هذه المعاناة الطويلة، تذكرت دائما هذه المبادئ الأساسية الثلاثة التي أبقتني على مقربة من السيد المسيح ربنا: ثق في حبه غير المشروط الانهائي الذي اقتاده إلى صليب الألم والعار من أجلي؛ ثق في حكمته اللانهائية؛ وثق في مقدرته الانهائية. "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (رومية 8: 28).
عندما يحاول الشيطان استغلال آلامنا وشدتنا ويهمس في آذاننا قائلا: "يسوع لا يحبك. إذا كان يحبك، فما سمح بهذه الشدة لك." جواب الإيمان هو: "ينتهرك الرب ياشيطان. نحن على ثقة كاملة بأبينا السماوي مهما حدث، كما يثق الطفل بأبيه الأرضي في جميع المواقف. سوف نسير مع المسيح حتى إلى الصليب إذا لزم الأمر."
بعد سنوات طويلة وصعبة من الترقب القلق، لا شفاء ولا السماء، أسبغ الرب رحمته بالترحيب بأمنا في السماء. قد انتهت رحلتها التي استمرت حوالي 91 عاما على الأرض. وبدأت رحلتها الأبدية في أمجاد ملكوت المسيح السماوي. سمح الرب بالموت الجسدي بعد سقوط آدم وحواء. كان هذا عملا من أعمال الرحمة لإلهنا المُحب، وليس عملا من أعمال الدينونة والنقمة. انه لا يريد أن يعاني البشر إلى الأبد من ويلات وآلام وأوجاع جسد عجوز مريض متدهور مخلوق من طين الأرض. يضع الموت الجسدي حدا لآلالم الجسد ويُنهيها.
إنني أتصور السيد المسيح، ربنا، منتظرا على أبواب ملكوت السماء الؤلؤية بأذرع مفتوحة لعناق أمنا قائلا: مرحبا بك في بيتك يابنتي. "... نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. أُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ" (متى 25: 21).
أود أن أعرب عن شكري وامتناني لجميع الذين وقفوا إلى جانبنا ودعمونا في سنواتنا الصعبة. الصديق في وقت الشدة هو صديق حقيقي. أود أن أشكر على وجه الخصوص الكاهن المحلي الذي قام بزيارتها في منزلها مرات عديدة كيما يعطيها التناول المقدس.
سوف أفتقدك يا أمي. لكن هناك أمرين يعزيان نفسي. أعلم أنك في ملكوت السماوات، وهو مكان أفضل بكثير من الأرض، يضيؤه مجد الله الأبدي الغير مخلوق. إنه المكان الذي اشتاق بولس الرسول أن يذهب إليه كما قال في فيلبي 1: 23: "... لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً." إنه المكان الذي اشتاق إليه مرتل المزمور، قائلا: "مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ. تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ ..." (مزمور 84: 1-2). عزائي الثاني هو أنني آمل أن ألتقي بك هناك عندما يأتي يوم مغادرتي للأرض.
يأمي، إنني أعلم أنك سوف تذكرينا دائما أمام الرب في مملكته الأبدية.
أشكرك لكل ما فعلتيه لأجلي لسنين كثيرة. شكرا لمحبتك. شكرا لرعايتك. شكرا لكدحك وتضحياتك.
لعل الرب يباركنا بذكراك العطرة وصلوات محبتك كل أيامنا؟
وداعا ياأمي. نفترق الآن لنلتقي مرة أخرى. سوف أراك في المستقبل في مملكة السماء.