الجوهرة الثمينة...
آيات للتأمل من الكتاب المقدس:
"هَئَنَذَا قَدْ نَقَّيْتُكَ وَلَيْسَ بِفِضَّةٍ. اخْتَرْتُكَ فِي كُورِ الْمَشَقَّةِ" (إشعياء 48: 10)؛ "لأَنَّكَ جَرَّبْتَنَا يَا اللهُ. مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ الْفِضَّةِ" (مزمور 66: 10)؛ "إِذَا اجْتَزْتَ فِي الْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ وَفِي الأَنْهَارِ فَلاَ تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ وَاللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ" (إشعياء 43: 2)؛ "لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي. إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ فَالرَّبُّ نُورٌ لِي" (ميخا 7: 8)
في الكتاب المقدس، ترمز الجواهر الثمينة مثل الياقوت، واليشب، والعقيق، والزمرد لمجد الله (خروج 24: 10؛ رؤيا 4: 3). يشير نقاء وتألق هذه الأحجار الكريمة إلى بعض الصفات الإلهية الأساسية. لا ينبعث ضوءا من هذه الأحجار الكريمة. إذ أنها ليست مُشعة. لكنها مجرد تُشع الضوء الساقط عليها من مصادر خارجية بتألق وبهاء. عندما نزل موسى من جبل سيناء بلوحي الوصايا التي أعطاها الله له، كان وجهه يلمع مظهرا مجد الله (خروج 34: 29-35). ملأ بهاء الرب خيمة الإجتماع القديمة (خروج 40: 34-35)، ومعبد سليمان عند تكريسه (أخبار الأيام الثاني 7: 1). عند تجلي يسوع على جبل طابور، "...أَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ" (متى 17: 2) مشعا الوهج الإلهي الأبدي.
لا يمكن رؤية الماس في مكان مظلم، لأنه لا يُشع ضوءا من ذاته. إذا وُضع في مكان مضيء، فإنه يتألق بالعديد من الألوان إذ يشتت ويحلل الضوء الساقط عليه. بالمثل، ليس للقديسين المسيحيين مجد ذاتي خاص بهم. يتألق المجد الإلهي الخارجي من خلالهم عندما ينضجوا مشابهين صورة المسيح المضيئة البراقة. للوصول إلى هذا المستوى الرفيع من النضج الروحي، يتدرج أتباع المسيح في مراحل مختلفة من النمو الروحي.
تعطينا الطبيعة علامات على الطريق. ما هي العملية الطبيعية التي تنتج جوهرة ثمينة مثل الماس؟ يتكون معظم الماس الطبيعي نتيجة ضغط عال ودرجة حرارة مرتفعة [حوالي 900-1300 درجة] على عمق 140-190 كيلومترا (87-118 ميلا) في الأرض. أملاح معدنية محتوية على الكربون تتحول إلى الماس على مدى فترات طويلة تُقدر من بليون إلى 3.3 بليون سنة (25٪ إلى 75٪ من عمر الأرض). يتم جلب الماس إلى قرب سطح الأرض بواسطة الحمم البركانية العميقة. كما يمكن انتاج الماس صناعيا عن طريق استخدام ضغط عال ودرجة حرارة مرتفعة تشابه طريقة تكوينه في أعماق الأرض.
الماس الطبيعي أكثر صلابة من أي مادة طبيعية أخرى معروفة. تعتمد صلابة الماس على نقائه وكمال بلورته. الماس الطبيعي الخام المستخرج من مناجم الماس هو حجارة قذرة قبيحة ليست جذابة قليلة القيمة. يتم تحويل الماس الطبيعي الخام إلى الأحجار الكريمة بعملية متعددة الخطوات لقطعه وصقله. قطع الماس عملية دقيقة تتطلب مهارات ومعرفة علمية وأدوات متخصصة وخبرة. هدفها النهائي هو إنتاج جوهرة متعددة الأوجه بزوايا محددة بينها تؤدي إلى تحقيق أقصى قدر من بريق الماس، الذي ينتج من تشتت الضوء الأبيض. عادة يتم صقل الماس ببطء باستخدام الطرق التقليدية المضنية والإهتمام الأكبر بالتفاصيل، أكثر من الحال مع معظم الأحجار الكريمة الأخرى.
بدأ اليوم الثامن للخليقة بعد صلب وقيامة السيد المسيح. العمل الإلهي الرئيسي في هذا اليوم/الدهر هو تجديد الخليقة الساقطة. في بداية الرحلة الروحية للمؤمن مع المسيح، ليس للمؤمن المسيحي جاذبية وكمال روحي في ذاته، تماما مثل الماس الطبيعي الخام الغير نقي. ثم يبدأ السيد المسيح عملية إزالة شهواته الخاطئة وتنقية أفكاره وتنمية فضائله الروحية بقوة الروح القدس. قد تكون هذه العملية مؤلمة. إذ أنها تشمل المحن والمعاناة المختلفة على مدى فترات طويلة من الزمن. تؤدي هذه العملية إلى النضج الروحي للمؤمن وتجديد طبيعته، فتبدأ شبه صورة المسيح تتألق من خلاله. يبدأ يتحول إلى الماس الروحي الثمين الذي يشع نور المسيح ومجده في هذا العصر وفي الأبدية.
يستخدم الله مصاعب وآلام واضطهادات المؤمن الذي يسير مع المسيح لصقل وتنقية وتنمية شخصيته حتى ينمو إلى مستوى رفيع من النضج الروحي. عندما تتسلط النار على الحديد يصبح مثل النار حتى أن ما كان باردا يشع حرارة شديدة، وما كان أسودا يتوهج مشعا ضوءا بهي. بالمثل، يدخل روح الله القدوس في أعماق النفس البشرية كنار مقدسة تحرق أشواك الخطيئة وتنقي المؤمن. يتمجد الله في آلام المؤمن عندما يحول سلبيات طبيعته البشرية الساقطة إلى إيجابيات التنقية والتجديد نتيجة آلامه. "لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هَئَنَذَا أُنَقِّيهِمْ وَأَمْتَحِنُهُمْ..." (إرميا 9: 7). "فَيَجْلِسُ (الرب) مُمَحِّصاً وَمُنَقِّياً لِلْفِضَّةِ. فَيُنَقِّي بَنِي لاَوِي وَيُصَفِّيهِمْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ..." (ملاخي 3: 3). "لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً" (كُورِنْثُوس الثَّانِيَةُ 4: 17). بعد مراحل طويلة من الصقل والنمو لسنوات كثيرة، يصبح المؤمن مثل الماس الصلب المتألق مظهرا مجد الله غير المخلوق في ملكوته الأبدي.
يقدم الكتاب المقدس أمثلة واضحة لأبرار ساروا مع الرب في هذه العملية من التطور والنمو الروحي، وبرزوا منتصرين وناضجين في الإيمان والسمات الروحية. نقدم بعض هذه الأمثلة هنا.
1. يوسف الصديق
وردت الأحداث الرئيسية لحياة يوسف بن يعقوب في سفر التكوين 37 ؛ 39-47: 26. أحب يعقوب يوسف، ابن شيخوخته من زوجته المفضلة الراحلة راحيل، أكثر من أبنائه الآخرين (تكوين 37: 3-4). عامله معاملة أفضل علنا، وأعطاه قميصا ملونا يرمز إلى تفضيله على إخوته (تكوين 37: 3). لذلك، كرهه إخوته، وتآمروا ضده، وباعوه أخيرا كعبد.
استمرت تجارب يوسف الصديق ثلاثة عشر عاما طويلة وشملت طرحه في بئر (تكوين 37: 24)، وتغربه في مصر (تكوين 37: 28؛ 39: 1)؛ وإلقائه في السجن (تكوين 39: 20). إنحدر يوسف من المرتبة المفضلة في بيت أبيه إلى أحقر مستوى في المجتمع—مستوى عبد مسجون. لم يرتكب يوسف أي خطيئة تسبب محنه (تكوين 40: 15)، وبالتأكيد لم يفهم أسباب محنه خلال تلك الثلاثة عشر عاما الصعبة في حياته. ولم يكشف الرب له أسباب مصاعبه! ومع ذلك، ظل يوسف أمينا للرب، ولم يضعف إيمانه. لم يتمرد على الرب في أحلك أيام حياته، وظل وفيا له في الشدائد (تكوين 39: 9)، بدافع ثقته العميقة بأن إرادة الله دائما سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى ما هو أفضل (تكوين 45: 5، 7- 8؛ 50: 20). إنتظر عمل الله في خضوع تام للإرادة الإلهية.
ثبت يوسف في الإيمان رغم الشدائد، ونضج إيمانه بهذه التجارب. كافأه لله على ولائه له في الشدائد ببركات مادية وروحية (تكوين 41: 40-44؛ 48: 5-6، 14-20؛ 49: 22-26؛ اخبار الأيام الأول 5: 1-2). رفع الرب يوسف. أقامه على أرض مصر، وأصبح الثاني في السلطة لفرعون في مصر—الحضارة الأكثر تقدما في عصره. أدرك يوسف أن الفهم الكامل لأعمال الله في حياته ينبغي أن ينتظر النتيجة النهائية لأحداث حياته. فهم يوسف براعة الله وحكمته. أدرك يوسف، بعد رفعته في مصر، بعض أسباب مصاعبه قائلا: "... لأَنَّهُ لِاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ" (تكوين 45: 5، 7-8)؛ "... لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً" (تكوين 50: 20). صنع الله، الفخاري القدير، من صبي مدلل رجل الإيمان والرحمة والحكمة والمسؤولية (إرميا 18: 1-6). قوّت شدائد يوسف شخصيته إلى درجة أن الله استخدمه لإنقاذ عائلة يعقوب وكذلك كافة شعوب مصر وكنعان من الهلاك في سبع سنوات المجاعة.
في نهاية المطاف، تحول يوسف إلى الماس متلألئ يشع وهجه كثيرا من الفضائل الروحية—إيمانا قويا وثقة في الرب، وصبرا، وتواضعا، وحكمة، وحساسية، وأمانة، وتسامح، ومسؤولية، الخ ..
2. أيوب البار
ادعى الشيطان في الحضرة الإلهية أن أيوب مجرد مرتزق. إفتقر إلى المحبة والوفاء لله. إدعى أن كل أعمال التقوى التي أداها أيوب كانت لأجل الحصول على المكافآت المادية من قطعان الماشية، والأسرة، والصحة الجيدة التي أنعم الله بها عليه بسخاء. كان تقواه مقابل أجر (أيوب 1: 9-11؛ 2: 4-5). كان تحدي الشيطان قويا للغاية. سمح الله للشيطان أن يضرب ممتلكات أيوب وعائلته وصحته (أيوب 1: 12؛ 2: 6) من أجل اختبار وإثبات مدى وفائه لله الحي وإيمانه به. هل هو إيمان صحيح وقوي، أو ضعيف وسطحي (أيوب 1: 10-11؛ 2: 3-5؛ 23: 10)؟ لكن، كانت كل الإختبارات تحت سيطرة الله القدير. كان الشيطان مقيدا في ما يمكن أن يفعله (أيوب 1: 12؛ 2: 6). هيمن الرب على كل شيء في تجارب أيوب.
أراد الله أن يجلب أيوب إلى نهاية ذاته، إلى نهاية بره الذاتي، وتبرئته لذاته وحكمته الذاتية، حتى يجد نفسه في الله (أيوب 40: 1-5). أراد الله أن يجلب أيوب إلى التسليم الكامل له، والثقة التامة به، والإرتياح فيه على الرغم من كل التناقضات السطحية، بصرف النظر عن أي إيضاحات.
نجح أيوب في اختبار الإيمان. "... إِذَا جَرَّبَنِي (الله) أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ" (أيوب 23: 10). إستمر أيوب في ولائه لله، ولم يتمرد ضده بسبب شدائده (أيوب 1: 21؛ 2: 10؛ 42: 7). أصبح متواضعا، وتعلم أن يستسلم بدون تحفظ لإرادة الله بدون تساؤلات (أيوب 40: 2)، وتاب عن بره الذاتي (أيوب 42: 6). تعلم أن يثق في الرب في شدائده (أيوب 13: 15). المصائب التي حلت بأيوب فتحت عينيه وزادت معرفته بنفسه وبالله. أدى ذلك إلى تحويله ونضجه الروحي، لأنه تنقى مثل الذهب (أيوب 23: 10). أصبح خادما ناضجا للرب مثل الماس المتلألئ مشعا المجد الإلهي.
بارك الرب أيوب وعوضه عن خسائره، وأعطاه ضعف ما كان لديه سابقا (أيوب 42: 10، 12-13). حقا، كانت عاقبة الرب لصبر أيوب سخية جدا (يعقوب 5: 11).
3. شوكة في جسد بولس الرسول
أصيب بولس الرسول، خادم الرب الذي لم يكل، بعلة جسدية، لم توصف طبيعتها في الكتاب المقدس (كورنثوس الثانية 12: 7). لكن، هناك دلائل تشير إلى أنها قد تكون مرض أصاب عينيه (غلاطية 6: 11؛ 4: 13-15). بغض النظر عن طبيعة تلك العلة، فإنها ضايقته حتى انه تضرع إلى الرب ثلاث مرات أن يشفيه. بولس الرسول، الذي نال نعمة شفاء المرضى، لم يستطع أن يُبرأ نفسه، ولم يمنحه الرب طلبه قائلا: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ ..." (كورنثوس الثانية 12: 9)! بولس الرسول، رجل الله، عانى من تلك العلة بقية أيام حياته، حتى استشهد.
سمح الرب بعلة القديس بولس الرسول لعدة أسباب هامة:
1. لحمايته من خطيئة الكبرياء بسبب الرؤى والوحي التي تلقاها من الله (كورنثوس الثانية 12: 7)؛
2. لتمجيد قوة الرب في ضعف اللإنسان ولتأكيد كمال نعمة الله (كورنثوس الثانية 12: 9)، وتمجيدها.
لم يضعف إيمان بولس بسبب تجربته وشدته، ولم يتمرد على الرب. لقد قبل إرادة الله له، مما يعطي لنا مثالا جيدا ينبغي أن نتبعه. أدى هذا إلى نضجه في خدمة الرب، فأصبح ماسا متلألأ بمجد الله.
4. التجول في البرية
أرسل موسى النبي اثني عشر رجلا ليتجسسوا أرض كنعان وليجلبوا بعض ثمرها قبل غزوها (عدد 13-14). عادوا بعد أربعين يوما ببعض من ثمرها لموسى النبي ولبني إسرائيل في برية فاران في شمال سيناء. أخبرهم عشرة من الجواسيس أن سكان الأرض أقوياء ولن يستطيع بنوا إسرائيل إلحاق الهزيمة بهم. لكن اثنين من الجواسيس، يشوع بن نون وكالب بن يفنة، أكدا لبني إسرائيل أنه: "إِنْ سُرَّ بِنَا الرَّبُّ يُدْخِلنَا إِلى هَذِهِ الأَرْضِ وَيُعْطِينَا إِيَّاهَا أَرْضاً تَفِيضُ لبَناً وَعَسَلاً. إِنَّمَا لا تَتَمَرَّدُوا عَلى الرَّبِّ وَلا تَخَافُوا مِنْ شَعْبِ الأَرْضِ لأَنَّهُمْ خُبْزُنَا. قَدْ زَال عَنْهُمْ ظِلُّهُمْ وَالرَّبُّ مَعَنَا. لا تَخَافُوهُمْ" (عدد 14: 8-9). ثار بنوا إسرائيل وحاولوا رجمهما. تدخل الرب وخلصهما من أيديهم.
أدان الرب بني إسرائيل لتمردهم، وقال لموسى: "... حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ وَحَتَّى مَتَى لا يُصَدِّقُونَنِي بِجَمِيعِ الآيَاتِ التِي عَمِلتُ فِي وَسَطِهِمْ؟" (عدد 14: 11). وقرر الرب أن: "لنْ تَدْخُلُوا الأَرْضَ التِي رَفَعْتُ يَدِي لِأُسْكِنَنَّكُمْ فِيهَا مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَّةَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ. وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الذِينَ قُلتُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً فَإِنِّي سَأُدْخِلُهُمْ فَيَعْرِفُونَ الأَرْضَ التِي احْتَقَرْتُمُوهَا. فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هَذَا القَفْرِ وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي القَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَيَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ حَتَّى تَفْنَى جُثَثُكُمْ فِي القَفْرِ" (عدد 14: 30-33). لذلك، تجول بني إسرائيل في البرية لمدة أربعين عاما غير قادرين على قهر أرض الموعد، حتى مات الجيل المتمرد بأكمله، من ابن عشرين سنة فما فوق. بعد ذلك، قهرت ذريتهم أرض الموعد.
أدب الرب الإسرائيليين المتمردين بشدة لمدة أربعين عاما في بيئة الصحراء القاسية حتى يقوي إيمانهم وينقي نفوسهم. "إِنِّي كُلُّ مَنْ أُحِبُّهُ أُوَبِّخُهُ وَأُؤَدِّبُهُ ..." (رؤيا 3: 19). رحلة بضعة أيام قليلة استغرقت أربعين عاما في الصحراء. خلال هذه الأربعين عاما بنى الرب إيمان وسمات أبنائهم في البرية من أجل إعدادهم لامتلاك أرض الموعد، التي تشير إلى مملكة السماء الأبدية. ما كانت عملية التنقية والتقوية سهلة. لقد استغرقت أربعين عاما في البيئة الصحراوية القاسية "وَأُدْخِلُ الثُّلْثَ فِي النَّارِ وَأَمْحَصُهُمْ كَمَحْصِ الْفِضَّةِ وَأَمْتَحِنُهُمُ امْتِحَانَ الذَّهَبِ. هُوَ يَدْعُو بِـاسْمِي وَأَنَا أُجِيبُهُ. أَقُولُ: هُوَ شَعْبِي وَهُوَ يَقُولُ: الرَّبُّ إِلَهِي" (زكريا 13: 9).
5. أتون النار (دَانِيآلُ 3)
صنع الملك البابلي نبوخذنصر تمثالا من ذهب وأمر كل شعب مملكته بالسجود له وعبادته. رفض عبادة الصنم الذهبي ثلاثة رجال من بني إسرائيل، شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو، الذين تم نفيهم إلى بابل في القرن السادس قبل الميلاد. "حِينَئِذٍ امْتَلَأَ نَبُوخَذْنَصَّرُ غَيْظاً وَتَغَيَّرَ مَنْظَرُ وَجْهِهِ عَلَى شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُو وَأَمَرَ بِأَنْ يَحْمُوا الأَتُونَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ مُعْتَاداً أَنْ يُحْمَى. وَأَمَرَ جَبَابِرَةَ الْقُوَّةِ فِي جَيْشِهِ بِأَنْ يُوثِقُوا شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ وَيُلْقُوهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ. ثُمَّ أُوثِقَ هَؤُلاَءِ الرِّجَالُ فِي سَرَاوِيلِهِمْ وَأَقْمِصَتِهِمْ وَأَرْدِيَتِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَأُلْقُوا فِي وَسَطِ أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلِمَةَ الْمَلِكِ شَدِيدَةٌ وَالأَتُونَ قَدْ حَمِيَ جِدّاً قَتَلَ لَهِيبُ النَّارِ الرِّجَالَ الَّذِينَ رَفَعُوا شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ. وَهَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ الرِّجَالِ شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو سَقَطُوا مُوثَقِينَ فِي وَسَطِ أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ. حِينَئِذٍ تَحَيَّرَ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ وَقَامَ مُسْرِعاً وَسَأَلَ مُشِيرِيهِ: [أَلَمْ نُلْقِ ثَلاَثَةَ رِجَالٍ مُوثَقِينَ فِي وَسَطِ النَّارِ؟] فَأَجَابُوا: [صَحِيحٌ أَيُّهَا الْمَلِكُ]. فَقَالَ: [هَا أَنَا نَاظِرٌ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ مَحْلُولِينَ يَتَمَشُّونَ فِي وَسَطِ النَّارِ وَمَا بِهِمْ ضَرَرٌ وَمَنْظَرُ الرَّابِعِ شَبِيهٌ بِـابْنِ الآلِهَةِ]. ثُمَّ اقْتَرَبَ نَبُوخَذْنَصَّرُ إِلَى بَابِ أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ وَنَادَى: [يَا شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو يَا عَبِيدَ اللَّهِ الْعَلِيِّ اخْرُجُوا وَتَعَالُوا]. فَخَرَجَ شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو مِنْ وَسَطِ النَّارِ. فَاجْتَمَعَتِ الْمَرَازِبَةُ وَالشِّحَنُ وَالْوُلاَةُ وَمُشِيرُو الْمَلِكِ وَرَأُوا هَؤُلاَءِ الرِّجَالَ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لِلنَّارِ قُوَّةٌ عَلَى أَجْسَامِهِمْ وَشَعْرَةٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمْ تَحْتَرِقْ وَسَرَاوِيلُهُمْ لَمْ تَتَغَيَّرْ وَرَائِحَةُ النَّارِ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِمْ" (دَانِيآلُ 3: 19-27).
حلت نار الأتون قيودهم وحررتهم منها، فخرجوا من النار سالمين. بعد أن تمت تنقيتهم وتحريرهم من قيودهم باختبار النار، رفعهم الملك إلى منصب أعلى (دانيال 3: 30)، مما يشير إلى نضجهم وتقدمهم الروحي.
لقد قال السيد المسيح: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ" (يوحنا 15 : 1-2). عملية تنقية وتقليم الشجرة لتنتج ثمرا أكثر تشتمل على معاناة وجهد. بعد سنوات من الآلام والشدائد والاختبارات والتجارب والضيقات، ينمو وينضج روحيا تلميذ المسيح، وينتج ثمار الروح: "مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ..." (غلاطية 5: 22-23). يعتبر المؤمن المسيحي الشدائد والآلام التي يسمح بها الرب بركة وليست لعنة. قال بولس الرسول: "فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا" (رومية 8: 18). كما يتكون الماس تحت تأثير درجة حرارة مرتفعة وضغط عال، ثم يتم قطعه وصقله بدقة حتى يتألق في الضوء، كذلك، ينمو وينضج روحيا تلميذ المسيح الذين يواصل المسيرة معه من خلال التجارب والمصاعب والشدائد. من خلال آلام المخاض هذه، يُولد تلميذ المسيح في ملكوت السماء الأبدي—ماسا روحيا ثمينا متألقا مشعا بهاء ومجد الله، إذ أنه لا يملك ضوءا من ذاته. يبدأ توهج بهاء الله من خلاله إلى الأبد.