تراثك المسيحي
قائمة المُحتويات:
( أ ) مقدمة
(ب) موجز تاريخي:
( 1 ) المسيحية في مصر
( 2 ) المسيحية في الشام
(ج) آباء الكنيسة
( 1 ) القديس أثناسيوس الرسولي
( 2 ) القديس كيرلس عامود الدين
( 3 ) القديس يوحنا الدمشقي
( 4 ) القديس أوغسطينوس
( 5 ) القديس أنطونيوس أبو الرهبان
( د) شهداء الكنيسة
( 1 ) القديس اغناطيوس بطريرك أنطاكية
( 2 ) القديس سبريانوس أسقف قرطاجنة (تونس)
( 3 ) القديس بقطر
( 4 ) القديسة دميانة
( 5 ) القديسة أفرونية الناسكة
( 6 ) القديس جرجس المعروف بالمزاحم
( 7 ) القديس يوحنا أبو نجاح الكبير
( 8 ) القديس سيدهم بشاي الدمياطي
( ه ) كنائس وأديرة أثرية والفن المسيحي
( و) نتيجة
آيات للتأمل من الكتاب المقدس:
"لأَنَّكَ أَنْتَ يَا اللهُ اسْتَمَعْتَ نُذُورِي. أَعْطَيْتَ مِيرَاثَ
خَائِفِي اسْمِكَ" (المَزَامير 61: 5)؛ " وَرَثْتُ شَهَادَاتِكَ
إِلَى الدَّهْرِ لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي" (المَزَامير 119:
111)؛"فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ
أَرْضِ مِصْرَ وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخُمِهَا" (إِشَعْيَاءَ
19: 19)؛ "يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: مُبَارَكٌ شَعْبِي
مِصْرُ وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ" (إِشَعْيَاءَ
19: 25)؛ " مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي" (هُوشَع: 11: 1 ب).
( أ ) مقدمة
تراثك المسيحي يساهم في تحديد وتعريف شخصيتك لأنه جزء من كيانك وجذورك التاريخية المسيحية التي قد سبقت الغزو الإسلامي العسكري في القرن السابع. لهذا من الهام جدا أن تعلم شيئا عنه. تقدم هذه الصفحة موجزا للتراث المسيحي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تبدأ بمقتطفات مختصرة من تاريخ المسيحية في هذه المناطق. ثم تنتقل إلى تقديم حياة وجهاد بعض آباء الكنيسة الأولين بهذه المناطق الذين دافعوا عن الإيمان المسيحي ضد البدع المختلفة، وبعض شهداء المسيحية الذين عاشوا الإيمان المسيحي وبذلوا حياتهم في سبيله. نناقش بعد ذلك بعض الكنائس والأديرة الأثرية والفن الكنسي القديم لهذه المناطق.
ستتعرف بعد قراءة هذه الصفحة على تراثك المسيحي الثمين المجيد—تراث الإيمان المسيحي الذي أحبه وعاشه آبائك وبذلوا حياتهم في سبيله. من حقك أن تفتخر بهذا التراث البهي.
(ب) موجز تاريخي:
( 1 ) المسيحية في مصر
ذهبت العائلة المقدسة (الطفل يسوع مع مريم أمه وخطيبها يوسف) إلى أرض مصر هربا من اضطهاد هيرودس ملك اليهودية الذي أراد إهلاك الطفل يسوع (متى 2: 13-15). تنقلت العائلة المقدسة في مصر حتى وصلت إلى أسيوط، ومكثت في مصر بضعة سنوات. ثم عادت إلى مدينة الناصرة بفلسطين بعد موت هيرودس الملك (متى 2: 19-23).
أسس القديس مرقس، أحد تلاميذ السيد المسيح، كنيسة مصر القبطية الأرثوذكسية في القرن الأول الميلادي، ويعتبر أول بطريرك لها (أعمال الرسل 12: 12، 25؛ 15: 39؛ تيموثاوس الثانية 4: 11). بدأ الكنيسة في مدينة الإسكندرية حيث كتب الإنجيل المعروف باسمه باللغة اليونانية القديمة. بعد رحلات تبشيرية عديدة مثمرة، أستشهد في سبيل الإيمان المسيحي حيث قتله الوثنيون بطريقة وحشية في شوارع الإسكندرية في 68م.
إنتشرت المسيحية بسرعة في أرض مصر رغم اضطهادات الإمبراطورية الرومانية في عهود الأباطرة سبتميوس ساويرس (193-211)، ديسيوس (249-251)، فاليريان (252-260)، دقلديانوس (284-305)، ماكسيميانوس (305-313) الذي أمر بقتل بطرس الأول البطريرك السابع عشر للكنيسة القبطية (302-311) المعروف بخاتم الشهداء. هذه الاضطهادات البربرية الوحشية تضمنت تشويه الجسم، قطع أعضاء جسدية، إعماء، تعذيب قاسي بطيء، حرق حتى الموت، وإلقاء المسيحيين للأسود الجائعة. أخيرا، أصدر الإمبراطور قسطنطين، أول إمبراطور مسيحي، مرسوما بمنع الإضطهادت في سنة 313م. أثناء هذه الإضطهادات القاسية دافع مسيحيو مصر عن الإيمان المسيحي بدون خوف، وأقاموا شعائر العبادة المسيحية علنا وليس في الخفاء، ورحبوا بإكليل الاستشهاد.
بدأ الإضطهاد الروماني مرة أخرى بعد الانشقاق الأول الرئيسي في العالم المسيحي في سنة 451م—الإنشقاق الخلقيدوني. إذ اعتبر الأباطرة البيزنطيون المسيحيين الذين رفضوا قرارات مجمع خلقيدون خارجين عن الإيمان الصحيح. بلغ هذا الاضطهاد أوجه في عهد المقوقس، آخر حاكم وبطريرك روماني لمصر. حكم مصر لمدة عشر سنوات قام خلالها بتعذيب مسيحيي مصر بالجلد والسجن والقتل والاستيلاء على ممتلكاتهم. تبع ذلك العصر الإسلامي باضطهاداته المختلفة.
على الرغم من قرون كثيرة من الاضطهاد مازالت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحيى في مصر حتى الآن وذلك تحقيقا لنبوة إِشَعْيَاءَ النبي (القرن الثامن ق.م.): "فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخُمِهَا" (إِشَعْيَاءَ 19: 19). في الواقع استمرار المسيحية في مصر رغم هذه الأحوال المضادة الصعبة هو من أقوى معجزات السيد المسيح على الأرض. وقد شرح البطريرك القبطي بطرس الجاولي (1809-1852) سبب بقاء الكنيسة القبطية للأمير الروسي الذي عرض عليه حماية القيصر الروسي. بعد رفضه لهذا الاقتراح، سأله عما إذا كان القيصر يحيى إلى الأبد. بعدما أجابه الأمير الروسي بالنفي، قال له البطريرك: "أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت وأما نحن فنعيش تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله."
لقد أنجبت كنيسة مصر (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية) زعماء ولاهوتيين مسيحيين ذائعي الصيت دافعوا عن الإيمان المسيحي الصحيح بلا كلل. حارب القديس أثناسيوس الرسولي، البطريرك القبطي العشرون (328-373)، البدعة الأريوسية. ولهذا قاسى من النفي من كرسيه خمس مرات. دحض القديس كيرلس الكبير، البطريرك القبطي الرابع والعشرون (412-444)، البدعة النسطورية. وتعتبر كتاباته اللاهوتية من أسس اللاهوت المسيحي الصحيح. عند وفاته، شغلت الكنيسة القبطية مركز القيادة في العالم المسيحي، وكان معظم الشعب المصري مسيحيا.
كانت الرهبنة القبطية هدية مصر للعالم المسيحي. أسس القديس أنطونيوس الكبير (251-356) الرهبنة التوحدية. مرحلتها الأولى هي رهبان يعيشون في توحد في البرية بعيدا عن أي إنسان. مرحلتها الثانية هي رهبان يعيشون في توحد في البرية قريبين من بعضهم. يلتقون معا يوم الأحد للعبادة سويا. بعد ذلك أدخل القديس باخوميوس الكبير (290-346) رهبنة الدير حيث يعيش الرهبان سويا في الدير. وقد أعد القوانين والقواعد التي تنظم الحياة اليومية للرهبان في الدير.
كانت المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية أول وأهم معهد لتعليم اللاهوتيات المسيحية في العصر المسيحي الأول. كما أنها علمت تخصصات أخري من فروع المعرفة. كان أوريجانوس (185-254) أحد مشاهير قادتها وعلمائها. كما أنه من أكبر علماء تفسير الكتاب المقدس في العالم كله. وقد ألف ستة آلاف كتابا ومقالا في تفسير الكتاب المقدس، والدفاع عن الإيمان المسيحي، والنسك، والصلاة، والوعظ. تحت قيادته، وصلت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية أوج مجدها وشهرتها. ولقد كان معظم قادة المسيحية في مصر على اتصال بهذه المدرسة، إما كمعلمين أو كتلاميذ.
نشر المبشرون الأقباط رسالة الإنجيل في مناطق كثيرة من العالم: جنوبا في بلاد النوبة والحبشة، شرقا في الخليج الفارسي والهند، شمالا في سوسرا وبريطانيا وأيرلندا.
( 2 ) المسيحية في الشام
كانت مدينة أنطاكية أهم مركز للمسيحية الأولى في الشام. كنيسة أنطاكية من أقدم الكنائس في العالم. وقد ذكرت مرات عديدة في كتاب أعمال الرسل (أَعْمَالِ الرُّسُلِ 11: 19-27؛ 13: 1؛ 14: 21، 26؛ 15: 22-23، 30-35؛ 18: 22). وكان بطرس الرسول هو أول أسقف لكنيسة أنطاكية. أصبحت بسرعة مركزا هاما للإيمان المسيحي في العصر المسيحي الأول. وقد تطلعت إليها كنائس سورية وفلسطين وقبرص وبلاد الفرس والهند للزعامة الروحية.
وقد أخرجت للعالم لاهوتيين مسيحيين مهمين مثل الأسقف ثيوفيلس (القرن الثاني)، والأسقف سرابيون (199-211)، ولوشيان اللاهوتي (ت. 312) الذي أسس مدرسة اللاهوت المشهورة بأنطاكية، والبطريرك ساويرس (465-538). ومن القديسين المشهورين لكنيسة أنطاكية القديس إغناطيوس الذي استشهد في عهد الإمبراطور تراجان (98-117)، والقديس إفرايم السوري (306-373)، والقديس كيرولس من القدس (315-386)، والقديس يوحنا ذهبي الفم (347-407).
أستشهد في الثلاثة قرون الأولى آلاف المؤمنين من كنيسة أنطاكية، واستشهد معظم آبائها البطاركة.
إنقسمت بطريركية أنطاكية إلى فرعين بعد نياحة البطريرك ساويرس (465-538) وحتى يومنا هذا: الفرع الملكي الذي قبل قرارات مجمع خلقيدون (451)، والفرع السوري اليعقوبي الذي رفض قرارات هذا المجمع. إتخذت الكنيسة السورية اسم الكنيسة اليعقوبية لأن القديس يعقوب البرادعي (500-578)، مطران مدينة الرها، قواها وثبتها برحلاته الكثيرة حيث دافع عن عقيدة الكنائس التي رفضت قرارات مجمع خلقيدون ورسم آلافا من الكهنة وعشرات من الأساقفة. كما أنه رسم بطريركين لكنيسة أنطاكية: سرجيوس الأنطاكي (542-562)، وبولس الأسود (564-581).
لقد ازدهرت رهبنة الأديرة في الكنيسة السورية منذ القرن الرابع بحسب النظام والقوانين التي رتبها القديس باخوميوس الكبير المصري (290-346). فتم بناء العديد من الأديرة. ومن المعتقد أن القديس سمعان العمودي (389-459) بدأ التقليد الرهباني حيث يعتزل الراهب من العالم على قمة عمود يبنيه لنفسه.
(ج) آباء الكنيسة
ساهم آباء الكنيسة الشرقيون في بناء أسس الكنيسة. إذ قاموا بشرح وتفصيل أسس الإيمان المسيحي ولاهوتياته الرئيسية. ودافعوا عنه. وحاربوا البدع المختلفة.
عاش الآباء الشرقيون في شرقي البحر الأبيض المتوسط في الإسكندرية وأنطاكية ودمشق والقسطنطينية ومدن صغيرة في آسيا الصغرى. وقد كان كثير منهم من عائلات غنية ذي نفوذ وسلطة. وكان في إمكانية معظمهم بلوغ المراكز الرفيعة في مجتمعاتهم. لكنهم اختاروا حياة التقشف والزهد والصلاة والضيقات وطاعة السيد المسيح. رأوا في الإله القدير الحقيقي لطفا وقوة لانهائية. وقد كانوا غيورين على كرامة الإنسان ومكانته في كتاباتهم.
كان آباء الكنيسة الشرقيون رجالا ذي معرفة غيورين على حقائق الإيمان المسيحي الصحيح. أحبوا الله في المسيح. حاربوا البدع والأكاذيب، ولم يخافوا إنسانا.
( 1 ) القديس أثناسيوس الرسولي (ت 373م)
يعتبر القديس أثناسيوس من أبطال الإيمان المسيحي. دعته الكنيسة اليونانية (الشرقية) القديمة "أب الأرثوذكسية." وتعده الكنيسة اللاتينية (الغربية) من أحد الأربعة الآباء الشرقيين الكبار في الكنيسة.
وُلد القديس أثناسيوس من أبوين مصريين حوالي سنة 293-295م عند مدينة الإسكندرية حيث تلقى تعليمه اللاهوتي. قضى بضعة سنوات في البرية مع الرهبان. رسمه البطريرك الإسكندري ألكسندروس الأول شماسا في عام 319م. ثم أصبح سكرتيره الخاص.
إصطحب أثناسيوس البطريرك ألكسندروس إلى المجمع المسكوني الأول في نيقية (مدينة صغيرة في تركيا تدعى إسنك) في 325م. دافع أثناسيوس في هذا المجمع عن الإيمان المسيحي الصحيح ودحض البدعة الأريوسية التي أنكرت لاهوت المسيح. وقد خلف البطريرك ألكسندروس الأول بعد وفاته في عام 328م وأصبح البطريرك العشرين للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. جلس على كرسي البطريركية لمدة 45 عاما.
رغم أن مجمع نيقية استنكر وأدان بدعة آريوس وحرمه من الكنيسة، استمر تأثير هذه البدعة لمدة طويلة بعد ذلك. إذ كان لهذه البدعة تأثير قوي على البلاط الإمبراطوري. لم يسمح أثناسيوس لأي شيء بأن يعرقل جهوده في الدفاع عن الإيمان المسيحي الصحيح. كان مطرقة في يد الرب الإله ضد البدع. كان رجلا مع الله ضد العالم. ولقد انتصر في النهاية. هددوه بالاغتيال على الأقل مرتين. نفاه الأباطرة خمس مرات، فقضى أكثر من سبعة عشرة سنة في المنفى. عاصر سبعة عشر إمبراطورا رومانيا. وأخيرا انتقل إلى السماء في 2 مايو، 373م بعد أن غير اتجاه التاريخ.
على الرغم من الأزمات الكثيرة في حياة القديس أثناسيوس فقد كتب كثيرا من المؤلفات. كانت معظم مؤلفاته متعلقة بكفاحه للدفاع عن الإيمان المسيحي القويم. كتب دراسات في اللاهوتيات والمجادلات (ضد الوثنيين، مجادلات ضد الأريوسيين، عن التجسد الإلهي، دفاع عن هروبه)، وفي التاريخ (تاريخ الأريوسيين)، وفي تفسير الكتاب المقدس (تفسير المزامير، تعليقات على أسفار المزامير والجامعة ونشيد الإنشاد والتكوين). كما أن له مؤلفات في النسك (حياة القديس أنطونيوس__وهي أول سيرة مسيحية، عن البتولية، ومقالات عن النسك وعظات). كما أنه كتب خطابات كثيرة للشعب المسيحي، وللأساقفة وللرهبان.
( 2 ) القديس كيرلس عامود الدين (ت 444م)
القديس كيرلس الأول، الملقب بعامود الدين، هو ابن أخت البطريرك ثاوفيلس (البطريرك الثالث والعشرون للكنيسة القبطية). قد ولد في مدينة الإسكندرية، وأتم دراساته العلمية واللاهوتية في مدرستها اللاهوتية المشهورة. ثم أقام بدير القديس مكاريوس بوادي النطرون (بالصحراء الغربية) لمدة خمسة سنوات حيث أتم دراساته في الكتاب المقدس والعلوم الكنسية على يد الراهب سيرابيون المتضلع في هذه المواضيع. رُسم قسا بعد عودته إلى مدينة الإسكندرية. وقد أنتخب في أكتوبر 412م ليخلف البطريرك ثاوفيلس بعد وفاته، فأصبح البطريرك الرابع والعشرين للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
دافع بلا كلل عن مبادئ الإيمان الأرثوذكسي، وخاصة ضد البدعة النسطورية. إذ أن نسطور، أسقف مدينة القسطنطينية، جدف على السيد المسيح بادعائه أن السيد المسيح شخصين__شخص إلهي يسكن شخصا بشريا. فند ودحض كيرلس الإدعاءات النسطورية، ودافع عن العقيدة الأرثوذكسية التي تعلم أن الطبيعة الإلهية اتحدت بالطبيعة البشرية في شخص السيد المسيح بدون اختلاط وبدون امتزاج وبدون تغيير لأي من الطبيعتين.
أمر الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بعقد المجمع المسكوني الثالث في عام 431م في مدينة أفسس لمناقشة ادعاءات البدعة النسطورية. شارك في مداولات هذا المجمع مائتين أسقفا تحت رئاسة القديس كيرلس. رفض واستنكر المجمع تعاليم البدعة النسطورية، وحكم بحرم وعزل نسطور من الكنيسة. أدت بعض المؤامرات إلى سجن كيرلس لمدة وجيزة عاد بعدها إلى الإسكندرية. وقد انتقل إلى عالم الخلود في 27 يونيو 444م وهو يبلغ من العمر 67 سنة. يحتل القديس كيرلس الأول المرتبة الثانية بعد القديس أثناسيوس الرسولي في الدفاع عن العقيدة الصحيحة للإيمان الأرثوذكسي.
للقديس كيرلس مؤلفات كثيرة. حتى عام 428م ركز في كتاباته على دحض البدعة الأريوسية. بعد ذلك، ركز على تفنيد البدعة النسطورية. مؤلفاته معروفة بعمق الفكر والدقة ووضوح المنطق. كما أنه أصدر دراسات في تفسير بعض أسفار العهد القديم والعهد الجديد للكتاب المقدس.
من مؤلفاته التي تدحض البدعة النسطورية خمس كتب ضد نسطور، وعن الإيمان الصحيح (ثلاثة أبحاث)، وإثنى عشر حرما ضد نسطور ودفاعه عنها. كما أنه أصدر مؤلفا كبيرا (30 كتابا) يفند ادعاءات يوليانوس الوثني التي نشرها في كتابه ضد الجليليين في 363م. وقد كتب كثيرا من الرسائل والمواعظ.
( 3 ) القديس يوحنا الدمشقي (ت 750م)
وُلد في دمشق لعائلة سورية ثرية في حوالي سنة 676م. كان اسم عائلته منصور. وكان أبيه سرجيوس يحتل منصب رئيس الوزراء في الحكومة الأموية. كلف الراهب الإيطالي كوزماس بتعليم ابنه اللاهوت والبلاغة والتاريخ الطبيعي والموسيقى والفلك. بعدما انتهى كوزماس من تعليمه اعتزل إلى دير القديس صابا. يتكون هذا الدير من العديد من الكهوف المنحوتة في سفوح الجبال المرتفعة الواقعة بين القدس والبحر الميت. وقد رغب يوحنا أن يتبعه.
بعد موت أبيه المفاجئ، عينه الخليفة الأموي عبد الملك في منصب سكرتيره الأول وهو من أرفع المناصب في الإمبراطورية الأموية. في عام 726م أمر الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث بتدمير كل صور وتماثيل السيد المسيح والقديسين، وهكذا بدأت أزمة الصور الدينية. أصدر يوحنا منصور بحثا يفند ويستنكر موقف الإمبراطور. دافع عن إكرام وتقديس الأيقونات الدينية على أساس تعاليم الكتاب المقدس وكتابات آباء الكنيسة.
أثار موقف يوحنا منصور غضب الإمبراطور البيزنطي فتآمر للنيل منه. زيف خطابات موجهة له من يوحنا تخبره عن ضعف الدفاع العسكري الأموي لمدينة دمشق وتحثه على غزوها. عندما رأى الخليفة الأموي هذه الخطابات أمر بقطع يده اليمنى. لم ينم يوحنا تلك الليلة وظل يصلي بحرارة ودموع متشفعا بالقديسة مريم العذراء وواضعا يده المقطوعة عند معصمه. عند فجر هذا اليوم التحمت يده بمعصمه وأصبحت سليمة. فأعطى كل ثروته للفقراء والتحق بدير القديس صابا. قضى بقية حياته في قلايته في أحد الكهوف. رُسم قسا في سنة 735م، وانتقل إلى السموات في سنة 750م. القديس يوحنا الدمشقي هو آخر آباء الكنيسة الشرقية القدماء.
للقديس يوحنا الدمشقي مؤلفات كثيرة. كتب ينبوع المعرفة، وهو مؤلف ضخم يتكون من بحث في المنطق، وملخص للبدع، وشرح تفصيلي للإيمان الأرثوذكسي المسيحي وعقائده المختلفة. كما كتب مجادلات ضد محطمي الأيقونات الدينية، مواعظ، تعليقات على الكتاب المقدس، مقالات عن النسك، صلوات، تراتيل كنسية، وقصة بارلام ويواساف.
( 4 ) القديس أوغسطينوس (ت 430م)
أوغسطينوس هو أحد الآباء الغربيين الأولين للكنيسة. يعتبر أب اللاهوتيات اللاتينية في الكنيسة الغربية. وُلد في 13 نوفمبر 354م في شمال أفريقيا. أكمل دراساته في قرطاجنة بتونس. قام بتدريس القواعد والبلاغة في قرطاجنة وروما وميلانو. علمته أمه المتدينة مونيكا المسيحية. لكنه ترك الإيمان المسيحي الأرثوذكسي في التاسع عشر من عمره.
تبع أوغسطينوس الديانة المانية. ثم تركها بعدما أدرك تناقضاتها. عاد إلى المسيحية تدريجيا متأثرا بوعظ القديس أمبروز ونتيجة تأملاته الشخصية. بعد ذلك ترك عمله الطموح، وفي عام 386م انفصل عن المرأة التي عاش معها منذ كان في السابعة عشرة من عمره. تعمد في 387م وأصبح راهبا وكرس حياته لخدمة السيد المسيح. في عام 391م ذهب إلى مدينة هيبو بالجزائر حيث رُسم قسا، وأسس ديرا، وبدأ يعظ. رُسم أسقف هيبو (مدينة في شمال أفريقيا بالجزائر) في عام 397م. إنتقل إلى السماء في 28 أغسطس 430م.
أحب الأسقف أوغسطينوس شعبه كثيرا واشتهى ألا يخلص ويذهب إلى السماء بدونهم. كان يعظ بضعة مرات أسبوعيا، ويحل المشاكل، ويساعد الفقراء والمرضى. كما قام بتنظيم الأديرة ورجال الكهنوت وإدارة الكنيسة. بالإضافة إلى هذا، قام بخدمة الكنيسة الأفريقية والعالمية، برحلاته الطويلة لحضور مجامع الكنيسة الأفريقية، وبشرحه للإيمان الأرثوذكسي ودفاعه عنه.
كان القديس أوغسطينوس فيلسوفا ولاهوتيا وشاعرا ومحاجا وكاتبا وراعيا لشعبه. أصدر مؤلفات كثيرة في مواضيع مختلفة: سيرته (الاعترافات والمراجعات)، الفلسفة، المجادلات (ضد المانيين، والدوناتيين، والبلاجيين، والأريوسيين)، اللاهوتيات، الأخلاقيات، الرعويات، النسك، وتفسير الكتاب المقدس (ويشمل تعليقات على إنجيل القديس يوحنا الرسول ورسائله وسفر المزامير)، ومواعظ مختلفة.
( 5 ) القديس أنطونيوس أبو الرهبان (ت 356م)
القديس أنطونيوس هو مؤسس الرهبنة التوحدية. وُلد لعائلة مسيحية غنية في حوالي سنة 251م في قرية قيمن قرب بني سويف. وقد كتب القديس أثناسيوس سيرته.
بعد موت أبويه باع كل ميراثه ووزعه على الفقراء، وبدأ يمارس حياة النسك. ولقد حثه على هذا قول السيد المسيح للرجل الغني الذي سمعه عند قراءة الإنجيل في إحدى الخدمات الكنسية: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (مَتَّى 19: 21).
عاش في قلعة مهجورة في صحراء مصر الشرقية لمدة عشرين سنة. ثم انتقل إلى جبل القلزم الذي يبعد عن البحر الأحمر بحوالي عشرين ميلا. التف حوله كثيرون واحتذوا بمثاله. كل راهب عاش حياة منفردة. ترك وحدته وذهب إلى الإسكندرية في اضطهاد الإمبراطور ماكسيميانوس ليشجع ويقوي المسيحيين المضطهدين وليحثهم على الاستشهاد لأجل المسيح. وكان معروفا بصلواته طول الليل. وقد كثرت المعجزات التي صنعها الله على يديه. بعد 85 سنة من حياته في الصحراء، انتقل القديس أنطونيوس إلى السماء في سنة 356م على جبل القلزم، وكان يبلغ من العمر 105 سنة.
كان القديس أنطونيوس معروفا بالحكمة. كان يقرأ لغة واحدة فقط وهي اللغة القبطية المصرية الوطنية. ومن المعروف أنه قال لأحد الفلاسفة: "كتابي هو الطبيعة، وبذلك أستطيع قراءة لغة الله.” ولقد أرسل خطابات إلى أباطرة ينصحهم ألا يخدعهم مجد هذا العالم الزائل، وأن يتذكروا دائما أن السيد المسيح هو وحده الملك الأبدي. وكان يحثهم أن يحكموا بالعدل ويذكروا الفقراء. كما كتب رسائل للرهبان يحثهم على المثابرة والمواظبة على الحياة الرهبانية، ويحذرهم من العودة إلى العالم ومن البدعة الأريوسية. ولقد اعتاد أن يقول: "لا يفتكر من ترك العالم أنه قد ترك شيئا عظيما. الأرض بأكملها لا شيء إذا ما قورنت بلانهائية السماء."
وللقديس أنطونيوس عظات كثيرة موجهة للرهبان كانت تزيد حماسهم لحياة التقشف، وتجتذب آخرين للرهبنة. لذلك تزايد عدد مجموعات الرهبان.
ولقد تم بناء دير الأنبا أنطونيوس في صحراء مصر الشرقية بالقرب من البحر الأحمر بالقرب من المغارة التي قضى فيها معظم حياته.
( د) شهداء الكنيسة
شهداء المسيحية الذين اضطهدوا وعذبوا وقتلوا لإيمانهم بالمسيح كثيرون. من المعروف أن تعدادهم قد بلغ أكثر من مليون شهيدا مسيحيا في مصر وحدها. كثير من هؤلاء الشهداء استشهدوا في فترة الاضطهاد الروماني. لقد عذبوا وقتلوا لرفضهم ترك المسيحية للوثنية.
وقد استشهد بعض المسيحيين في العصر الإسلامي بعد تعذيبهم بسبب رفضهم للإسلام. كما قد استشهد بعض المسلمين الذين آمنوا بالمسيحية بسبب تركهم للإسلام وإيمانهم بالمسيحية.
( 1 ) القديس اغناطيوس بطريرك أنطاكية
ولد أغناطيس في سورية في حوالي سنة 50م. هو ثالث بطريرك لمدينة أنطاكية. وقد كان راع مثالي لشعبه غيورا على حالتهم الروحية.
أصدر الإمبراطور الروماني تراجان (98-117م) أمرا لشعوب الإمبراطورية الرومانية بأن تعبد آلهته الوثنية وتقدم ذبائحا لها. قام القديس أغناطيوس بجهود كثيرة لتقوية ضعفاء الإيمان من شعبه حتى يثبتوا في إيمان المسيح رغم وحشية الإضطهادات الرومانية للذين خالفوا أمر الإمبراطور. لذلك أمر الإمبراطور بالقبض عليه وإرساله مقيدا بالسلاسل إلى مدينة روما وإلقائه للوحوش الجائعة للفتك به. في أثناء رحلته إلى روما كتب سبعة رسائل للكنائس المسيحية في أفسس وفيلادلفيا وسمرنا وماجنيزيا وتلرالس (بآسيا الصغرى) وروما ولبوليكارب أسقف سمرنا.
بعد وصوله إلى روما طرحوه للوحوش الجائعة فمزقته تمزيقا أمام 87,000 متفرجا في ساحة فلافين، وبذلك نال إكليل الشهادة. فأخذ المؤمنون بقايا جسده القليلة إلى أنطاكية. في القرن الخامس أمرت الإمبراطورة أيودوشيا بنقل بقاياه إلى معبد تم تحويله إلى كنيسة. نقلت بقاياه مرة ثانية في سنة 637 إلى مدينة روما.
( 2 ) القديس سبريانوس أسقف قرطاجنة (تونس)
ولد سبريانوس بين سنة 200 وسنة 210م على الأرجح في مدينة قرطاجنة (تونس) لعائلة وثنية غنية. اعتنق المسيحية متأثرا بتعاليم كاهن متقدم في السن يدعى سسيليوس. وزع ثروته على الفقراء. رسم كاهنا ثم أسقفا لقرطاجنة في سنة 248-249م.
بعد ذلك بقليل اشتعلت نيران الاضطهاد الروماني في سنة 250م في عهد الإمبراطور ديسيوس. التجأ القديس سبريانوس إلى مكان مأمون حيث قام بتقوية وتشجيع المسيحيين المضطهدين على الثبات في الإيمان، وبمدح الشهداء المسيحيين. في الاضطهاد التالي الذي أمر به الإمبراطور فالريان، تم القبض عليه وقطع رأسه في سنة 258م. فكان أول أسقف لقرطاجنة ينال إكليل الشهادة.
كان القديس سبريانوس أول كاتب مسيحي مشهور كتب باللاتينية. فقد كتب كثيرا من الرسائل والمقالات في مواضيع مختلفة عن: المرتدين، وحدة الكنيسة، الصلاة الربانية، الموت، الأعمال والصدقة، مزايا الصبر، الحث على الاستشهاد، ومواضيع أخرى.
( 3 ) القديس بقطر
ولد هذا القديس بإحدى البلاد من أعمال أسيوط شرقي نهر النيل. عين جنديا ببلدة شو جنوبي أسيوط. صدرت مراسيم الإمبراطور دقلديانوس بالسجود للأصنام والتبخير لها في سنة 303-304م. رفض القديس بقطر السجود للأصنام. فاستدعاه والي شو ولاطفه فلم يستطع إغراءه، فألقاه في السجن. زاره والداه وشجعاه على الإستشهاد.
ولما عجز الوالي عن رده عن الإيمان بالسيد المسيح، استشاط غضبا وأرسله إلى والي أسيوط مع بعض الجند ورسالة يعرفه فيها بالأمر. فلما قرأ الوالي الرسالة، قال لبقطر: "لماذا خالفت والي شو؟ أذا سمعت لي رفعت منزلتك، وسأكتب للإمبراطور كي يجعلك واليا على إحدى المدن. فصرخ القديس قائلا: "ممالك العالم تزول، والذهب يفنى، والثياب تبلى، وجمال الجسد يفسد ويأكله الدود في القبور. لذا لا أترك سيدي يسوع المسيح، خالق السموات والأرض ورازق كل ذي جسد ولن أعبد أوثان حجرية يسكنها الشيطان."
فغضب الوالي، وأمر أن يربط خلف الخيل وتسرع في الصعود إلى قرية أبيسيديا. ثم عرض عليه ثانية أن يسجد للأصنام فرفض. فأمر الوالي بإلقائه في مستوقد حمام قرية موشا شرقي قرية أبيسيديا. فلما مضوا به إلى هناك طلب من الجند أن يمهلوه حتى يصلي. بعد أن صلى إلى الرب، ظهر له ملاك الرب وشدده ووعده بالبركات الدائمة لملكوت السموات. فالتفت القديس بقطر إلى الجند وقال لهم: "أكملوا ما قد أمرتم به." فأوثقوه وألقوه في لهيب مستوقد الحمام. فنال إكليل الشهادة.
أتى أناس مسيحيون وأخذوا جسده سرا، وأخفوه حتى انقضى عهد دقلديانوس. وقد شهد الذين رأوه أنهم وجدوا جسده سالما لم تحترق منه شعرة واحدة. وكان يشبه إنسانا نائما. وبنوا على اسمه كنيسة عظيمة مازالت قائمة في قرية موشا بمحافظة أسيوط. وقد ظهرت من جسده آيات وعجائب كثيرة. ومازالت عجائبه تظهر إلى هذا اليوم.
( 4 ) القديسة دميانة
كانت هذه العذراء المجاهدة ابنة مرقس والي البرلس والزعفران ووادي السيسبان. وكانت وحيدة أبويها. ولما بلغت من العمر سنة واحدة، أخذها أبوها إلى كنيسة دير الميمة وقدم النذور والقرابين ليباركها الرب. ولما بلغت من العمر خمس عشرة سنة أراد والدها أن يزوجها فرفضت، وأعلمته أنها قد نذرت نفسها عروسا للسيد المسيح. وإذ رأت أنه قد سر بذلك طلبت منه أن يبني لها مسكنا منفردا تتعبد فيه مع صاحباتها. فبناه لها. فسكنت فيه مع أربعين عذراء. كن يقضين معظم أوقاتهن في قراءة الكتاب المقدس والعبادة الحارة.
وبعد زمن، أرسل الإمبراطور دقلديانوس واستدعى مرقس أبيها وأمره أن يسجد للأوثان. فرفض أولا. لكن بعد أن لاطفه الإمبراطور، أذعن لأمره وسجد للأوثان. ولما عاد إلى مقر ولايته، علمت القديسة دميانة بما فعله. فأسرعت ودخلت إليه بدون سلام أو تحية وقالت له: "ما هذا الذي سمعته عنك؟ كنت أفضل أن يأتيني نبأ موتك من أن أسمع أنك تركت الإله الحقيقي الذي جبلك من العدم وسجدت لمصنوعات الأيادي. إعلم أنك إن لم ترجع عما أنت عليه الآن وإن لم تترك عبادة الحجارة، فلست بوالدي ولا أنا ابنتك." ثم تركته ومضت. فتأثر مرقس من كلام ابنته وبكى بكاء مرا. ثم أسرع إلى دقلديانوس واعترف بإيمانه بالسيد المسيح. فلما عجز الإمبراطور عن إقناعه بالوعد والوعيد، أمر بقطع رأسه.
ولما علم دقلديانوس أن الذي حول مرقس عن عبادة الأوثان هي دميانة ابنته، أرسل إليها أحد أمرائه وأمره أن يلاطفها أولا، فإن لم تطعه يقطع رأسها. فذهب إليها الأمير ومعه مئة جندي وآلات العذاب. حاول أن يغريها بمواعيد كثيرة حتى تعبد الأوثان. فلم يفلح. فغضب جدا، وأمر أن توضع بين لوحي حديد بهما مسامير ويتولى أربعة جنود عصرها بينهما، فجرى دمها على الأرض. وكانت العذارى صاحباتها واقفات يبكين عليها. ثم أودعوها السجن، فظهر لها ملاك الرب وشفاها من جميع جراحاتها. ولقد تفنن الأمير في تعذيبها. فكان تارة يمزق لحمها، وتارة يلقيها في شحم وزيت مغلي. في كل ذلك كان الرب يقيمها سالمة. ولما رأى الأمير أن جميع محاولاته قد باءت بالفشل أمام ثباتها على الإيمان المسيحي، أمر بقطع رأسها هي وجميع من معها من العذارى. فنلن جميعهن إكليل الشهادة.
( 5 ) القديسة أفرونية الناسكة
كان لهذه القديسة خالة تسمى آوريانة رئيسة على دير في العراق به خمسون عذراء، فربتها بخوف الله وعلمتها قراءة الكتب الإلهية. فنذرت نفسها للسيد المسيح، وجاهدت الجهاد الحسن بالنسك والصوم والصلاة بغير انقطاع.
لما أصدر الإمبراطور دقلديانوس أوامره بعبادة الأوثان (303-304م) واستشهد كثيرون من المسيحيين بسببه، سمعت عذارى الدير بذلك، فخفن وتركن الدير واختبأن. ولم يبق فيه سوى القديسة أفرونية وأخت أخرى والرئيسة.
أرسل الإمبراطور إلى الدير، فقبضوا على الرئيسة وأهانوها. فقالت لهم أفرونية: "خذوني أنا واتركوا هذه العجوز." فأخذوها هي أيضا مقيدة بالحبال إلى الوالي. وكانت تبلغ من العمر عشرين سنة. وكانت جميلة المنظر. عرض عليها الوالي عبادة الأوثان ووعدها بخيرات كثيرة. فرفضت. فأمر بضربها بالعصي وتمزيق ثوبها، ثم عصرها بالمعصرة وتمشيط جسدها بأمشاط من حديد. فتهرأ لحمها. وكانت تصلي إلى الرب طالبة منه المعونة. فأمر الوالي بقطع لسانها وكسر أسنانها. وكان الرب يقويها ويصبرها. وأخيرا أمر الوالي بقطع رأسها، فنالت إكليل الشهادة. فأخذ أحد الأتقياء جسدها ولفه بلفائف غالية، ووضعه في صندوق مذهب.
( 6 ) القديس جرجس المعروف بالمزاحم
كان أبوه بدويا مسلما متزوجا من امرأة مسيحية من أهل دميرة القبلية بمصر. رزق منها بثلاثة بنين، أحدهم هذا القديس فسموه "مزاحم." وكان يتردد مع والدته على الكنيسة منذ حداثته. فرأى أولاد المسيحيين يلبسون ملابس بيضاء في أيام تناولهم من الأسرار المقدسة. فاشتاق أن تلبسه أمه مثلهم، وتسمح له أن يأكل مما يأكلونه في الهيكل. فعرفته أن هذا لا يمكن إلا إذا تعمد أولا. وأعطته لقمة بركة من القربان الذي يوزعونه على الشعب. فصارت في فمه مثل العسل. فقال في نفسه: "إذا كان طعم القربان الذي لم يقدس بالصلاة حلوا بهذا المقدار، فكيف يكون طعم القربان المقدس؟" وأخذ شوقه يزداد إلى الإيمان بالمسيح منذ ذلك الحين.
لما كبر تزوج امرأة مسيحية وأعلمها أنه يريد أن يصير مسيحيا. فأشارت عليه أن يعتمد. فمضى إلى برما، ولما اشتهر أمره أتى إلى دمياط واعتمد وتسمى بجرجس. وعرفه المسلمون فقبضوا عليه وعذبوه، فتخلص منهم وذهب إلى مدينة صفط أبي تراب حيث أقام بها ثلاث سنوات. ولما عرف أمره، ذهب إلى مدينة قطور ولبث بها يخدم كنيسة القديس مار جرجس، ثم عاد ألى دميرة.
وسمع به المسلمون فأسلموه للوالي. فأودعه السجن. فاجتمع المسلمون وكسروا باب السجن، وضربوه فشجوا رأسه وتركوه بين الحياة والموت. ولما أتى بعض المؤمنين المسيحيين في الغد ليدفنوه ظنا أنه مات، وجدوه حيا. وعقد المسلمون مجلسا وهددوه، فلم يرجع عن الإيمان المسيحي. فعلقوه على صارية مركب. لكن القاضي أنزله وأودعه السجن.
وكانت زوجته تصبره وتعزيه، وتعلمه أن يعتقد بأن الذي حل به من العذاب إنما هو من أجل خطاياه. لئلا يغريه الشيطان فيفتخر بأنه صار مثل الشهداء. وظهر له ملاك الرب فعزاه وقواه وأنبأه بأنه سينال إكليل الشهادة في اليوم التالي. وفي الصباح، اجتمع المسلمون عند الوالي وطلبوا منه قطع رأسه، فأسلمه لهم. فأخذوه وقطعوا رأسه عند كنيسة الملاك ميخائيل بدميرة في 13 يونيه سنة 959م ثم طرحوه في نار متقدة لمدة يوم وليلة. فلم يحترق جسده. فوضعوه في برميل وطرحوه في النهر. وبتدبير الله، رسا البرميل على جزيرة بها امرأة مسيحية مؤمنة، فأخذته وكفنته وخبأته في منزلها إلى أن بنوا له كنيسة ووضعوه فيها.
( 7 ) القديس يوحنا أبو نجاح الكبير
كان كبير كتاب الديوان في عصره. كما كان مقدم الأراخنة في عهد الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي. وقد عاصر هذا الشيخ البابا فيلوثاؤس البطريرك 63 (979-1003م) للكنيسة القبطية.
كان يوحنا مسيحيا تقيا بارا محسنا للفقراء محبا للكنيسة وغيورا على الإيمان الأرثوذكسي المسيحي. إستدعى الحاكم بأمر الله عشرة من رؤساء الكتاب وعرض عليهم الإسلام، وكان أولهم يوحنا أبو نجاح. ووعدهم بمناصب رفيعة في حكومته. فطلب منه يوحنا أن يمهله إلى الغد حتى يفكر في هذا الأمر. فأجاب طلبه وأطلقه.
مضى يوحنا إلى منزله ودعا أصدقاءه وعائلته وعرفهم بما حدث مع الخليفة وقال لهم: "أنا مستعد أن أموت على اسم السيد المسيح. وهدفي من طلب المهلة لم يكن لمشاورة نفسي بل للاجتماع بكم حتى أودعكم وأوصيكم ألا تطلبوا مجد هذا العالم الفاني فتضيعوا عليكم مجد السيد المسيح الدائم الباقي. فقد أشبع نفوسنا من خيرات الأرض، ولقد دعانا برحمته إلى ملكوت السموات. فلتتشدد قلوبكم." ولقد قوى كلامه المملوء بالحكمة قلوب سامعيه. وعزموا على أن يموتوا على اسم السيد المسيح. وصنع لهم هذا اليوم وليمة عظيمة.
وفي صباح اليوم التالي مضى يوحنا إلى الحاكم بأمر الله وأخبره أنه سيبقى أمينا للمسيح. فاجتهد الحاكم بكل أنواع الترغيب والوعيد أن يجعله يترك المسيحية. لكن ثبت يوحنا على الإيمان المسيحي. فأمر الحاكم بنزع ثيابه وشده في المعصرة وضربه. فضربوه خمسمائة سوط حتى انتثر لحمه وسالت دماءه. وكانت السياط مصنوعة من عروق البقر التي لا تقوى الجبابرة على احتمالها.
ثم أمر الحاكم أن يضرب إلى تمام الألف سوط. فلما ضرب ثلاثمائة سوط أخرى، قال مثل المسيح سيده: "أنا عطشان." فأوقفوا الضرب وأعلموا الحاكم بذلك. فقال: "أسقوه بعد أن تقولوا له أن يرجع عن دينه." فلما جاءوا إليه بالماء وقالوا له ما أمرهم الخليفة، أجابهم يوحنا بكل إباء وشمم قائلا: "أعيدوا له ماءه فإني غير محتاج إليه، لأن سيدي يسوع المسيح قد سقاني وأطفأ ظمئي." وقد شهد قوم ممن كانوا هناك أنهم أبصروا الماء يسقط في هذه اللحظة من لحيته. ولما قال هذا أسلم الروح. وعندما أعلموا الخليفة بموته، أمر أن يضرب وهو جثة هامدة حتى تمام الألف سوط. وهكذا تم استشهاده في 14 أبريل سنة 1003م ونال الإكليل المعد له من ملك الملوك يسوع المسيح له المجد.
( 8 ) القديس سيدهم بشاي الدمياطي
كان هذه الشهيد كاتبا بالديوان بثغر دمياط بمصر في عصر محمد علي باشا والي مصر. حدث شغب من الرعاع وأمسكوه واتهموه زورا أنه سب الدين الإسلامي. شهد ضده زورا أمام القاضي الشرعي بربري وحمّار. فحكم عليه بترك دينه أو القتل. ثم جلده وأرسله إلى محافظ الثغر. بعد أن فحص قضيته حكم عليه بمثل ما حكم به القاضي. تمسك سيدهم بمسيحيته واستهان بالموت. فجلدوه وجروه على وجهه من فوق سلم قصر المحافظ إلى أسفله. ثم طاف به العسكر بعد أن أركبوه جاموسة بالمقلوب في شوارع المدينة.
وشرع الرعاع يهزؤون به ويعذبونه بآلات مختلفة إلى أن كاد يسلم الروح. وأخيرا، في نهاية المطاف، سكبوا القطران المنصهر على رأسه ووجهه، ثم تركوه خارج باب منزله ومضوا. فأخذته أسرته وحاولت تمريضه. لكنه انتقل إلى السماء بعد خمسة أيام في 25 مارس 1844م متأثرا بجراحه. خلال هذه الأيام الخمسة، إعترى المسيحيين في مدينة دمياط خوفا، ومكثوا في منازلهم.
اجتمع المسيحيون على اختلاف مذاهبهم واحتفلوا بجنازته احتفالا لم يسبق له مثيل. فتقلدوا أسلحتهم، ولبس الكهنة وعلى رأسهم القمص يوسف ميخائيل رئيس الأقباط بدمياط ملابسهم الرسمية واشترك معهم كهنة الطوائف المسيحية الأخرى وساروا بجثمانه في شوارع المدينة وأمامه الشمامسة يحملون أعلام الصليب. ثم أتوا بجثمانه إلى الكنيسة حيث أتموا مراسم الجنازة. وصار الناس يستنكرون وحشية هذا الحادث الأليم، ويشيدون بصبر الشهيد سيدهم وتحمله ألوان العذاب بجلد وسكون.
اهتم والي مصر بالأمر، وأرسل مندوبين لفحص القضية. فأعادوا التحقيق وتبين الظلم والجور الذي حل بالشهيد وأدانوا القاضي والمحافظ لظلمهما. فنفوهما بعد تجريدهما من مناصبهما. كبادرة حسن النية لتهدئة خواطر المسيحيين في ثغر دمياط، تم منحهم الحق في رفع الصليب علنا في الجنازات المسيحية، وعلى كنائسهم. تم تعميم هذا الامتياز في سائر مدن مصر في عهد البطريرك كيرلس الرابع (1854-1861).
( ه ) كنائس وأديرة أثرية والفن المسيحي
تكثر في الشرق الأوسط كنائس وأديرة أثرية قديمة يعود الكثير منها إلى ما قبل العصر الإسلامي. تشهد تلك الآثار على حيوية وانتشار الإيمان المسيحي في كافة أنحاء الشرق الأوسط قبل الغزو الإسلامي العسكري في القرن السابع. على مدى رحلتها الطويلة في التاريخ، عانت بعض هذه الأبنية من الحرق والتدمير الجزئي والإغلاق ثم الترميم. يوجد بعضها كأطلال وأنقاد. واختفى البعض مدفونا في رمال القرون الطويلة. نعلم عنه فقط من سجلات التاريخ. وسلبت حجارة البعض الآخر لبناء منازل وجوامع.
في عشية الغزو الإسلامي العسكري في القرن السابع، كان بمصر المسيحية حوالي 15,000 كنيسة. بعد قرون كثيرة من الاضطهاد الإسلامي الذي أدى إلى تدمير الكنائس وتحويل بعضها إلى جوامع، انخفض عددها إلى حوالي 550 كنيسة في بداية القرن العشرين. كما قلت الأديرة المصرية من أكثر من 360 ديرا في القرن السابع إلى سبع أديرة في بداية القرن العشرين.
( و) نتيجة
لقد بحثنا باختصار في هذه الصفحة في تراثك المسيحي الثمين. لاشك، أن هذا التراث قد ساهم في تكوين ثقافتك وشخصيتك. من حقك أن تفتخر بهذا التراث الغني الثمين الذي شيده أجدادك المسيحيين بعرقهم وبدمائهم، ثم أعطوه لك ميراثا قيما تعتز به. مسؤوليتك وواجبك تجاه نفسك أن تستطلع وتكتشف هذا الركن من ضميرك الذي أتى من هناك. لقد حل وقت وآن أوان اتصالك بتاريخك وميراثك باستطلاع الإيمان المسيحي الذي شكل وصاغ تراثك—الإيمان المسيحي الذي أحبه أجدادك وعاشوه واستشهدوا في سبيله.